الأربعاء، 3 فبراير 2016

الأدلة القوية على أن الصواب في الإخفاء الشفوي هو الإطباق

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنه لا يخفى على الكثير منّا ما وقع في زماننا مِن الخلاف في كيفية إخفاء الميم الساكنة عند الباء (وهو ما يسمى بالإخفاء الشفوي)، وما حصل حولَ هذا الأمر مِن المناقشات والجدال والمناظرات، وما كُتبَ فيه مِن الرسائل والمقالات.
وقد بحثتُ في هذه المسألة كثيرًا، وخرجتُ مِن بحثي بنتيجةٍ هي أنّ أداءَ الإخفاءِ الشفوي يكون بانطباق الشفتين دون إبقاء فرجةٍ بينهما.
وقد أحببتُ أن أنقُلَ لكم هذا البحثَ المتواضعَ مختصَرًا؛ لعل غيري يستفيدُ منه ويجد فيه بغيتَه كما استفدتُ أنا منه ووجدتُ بغيتي.
فأقول -طالبا من الله التوفيق والسداد-:
اختلف أهلُ الأداء في الميم الساكنةِ إذا أتى بعدَها باءٌ - على مذهبَين:
المذهب الأول- الإظهار، وهو مذهبُ عدد منهم، قال أبو الحسين بن المنادي -فيما نقله عنه الداني في «التحديد» (ص16)-: «أخذْنا عن أهل الأداء خاصةً تِبْيانَ الميمِ الساكنة عند الواو والباء والفاء في حُسْنٍ مِن غيرِ إفحاشٍ».
وقال مكيّ بن أبي طالبٍ في «الرعاية» (ص206-207): «وإذا سكَنَت وجَب أن يتحفظ بإظهارها ساكنةً عند لقائها باءً أو فاءً أو واوًا. لا بد من بيان الميم الساكنة ساكنةً مِن غير أن يَحدُث فيها شيءٌ مِن حركةٍ، وإنما ذلك خوفَ الإخفاء والإدغام؛ لِقُربِ مخرجِ الميم مِن مخرجهن؛ لأنهن كلَّهن يخرجن مما بين الشفتين، غيرَ أن الفاء تخرج من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العلى، ولولا اختلافُ صفاتِ الباء والميم والواو -على ما قدمنا من الشرح- لَمْ يختلف السمعُ بهنّ، ولَكُنَّ في السمعِ صِنفًا واحدًا». اهـ بتصرفٍ يسير. 
وقد وقفتُ على كلامٍ لبعضِ مشايخِ القراءة المعاصرين مفادُه أن هذا المذهبَ لا تصح القراءةُ به الآن؛ لأن أسانيدَه انقطَعَت، ولا يوجد له إسناد متصل.
المذهب الثاني- الإخفاء، قال أبو بكرٍ أحمدُ ابنُ إمامِ الفنِّ ابنِ الجزري في «الحواشي المفهِمة» (ص103): «وهو المختار عند الجمهور، وعليه العمل». 
قال الداني في «التحديد» (ص16): «فإن التقت الميم بالباء -نحو: {آمنتم به} وما أشبهه- فعلماؤنا مختلفون في العبارة عنها معها؛ فقال بعضهم: هي مخفاةٌ؛ لانطباق الشفتين عليهما كانطباقهما على إحداهما. وهذا مذهب ابن مجاهد في ما حدثنا به الحسين بن علي عن أحمد بن نصر عنه [أنه] قال: «والميم لا تُدغَم في الباء، لكنها تخفى؛ لأنّ لها صوتًا في الخياشيم تُوَاخي به النونَ الخفيفةَ». ». اهـ.
قال ابنُ الجزري في «النشر» (1/ 222) -عند كلامه عن أحكام الميم الساكنة-: «الثَّانِي- الْإِخْفَاءُ عِنْدَ الْبَاءِ -عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ-، وَذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْر بْنِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَدَاءِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ وَسَائِرِ الْبِلَادِ الْغَرْبِيَّةِ، وَذَلِكَ نَحْوَ: {يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ}...، فَتَظَهَرُ الْغُنَّةُ فِيهَا إِذْ ذَاكَ إِظْهَارَهَا بَعْدَ الْقَلْبِ فِي نَحْوِ: {مِنْ بَعْدِ}. 
وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ -كَأَبِي الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُنَادِي وَغَيْرِهِ- إِلَى إِظْهَارِهَا عِنْدَهَا إِظْهَارًا تَامًّا، وهو اخْتِيَارُ مَكِّيٍّ الْقَيْسِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَدَاءِ بِالْعِرَاقِ وَسَائِرِ الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ، وَحَكَى أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ التَّائِبُ إِجْمَاعَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَالْوَجْهَانِ صَحِيحَانِ مَأْخُوذٌ بِهِمَا، إِلَّا أَنَّ الْإِخْفَاءَ أَوْلَى؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى إِخْفَائِهَا عِنْدَ الْقَلْبِ، وَعَلَى إِخْفَائِهَا فِي مَذْهَبِ أَبِي عَمْرٍو حَالَةَ الْإِدْغَامِ فِي نَحْو: {بِأعلم بالشاكرين}». اهـ.
ويقول في «المقدمة الجزرية»:
.......................... *** ...................... وأخفِيَنْ
الميمَ -إن تسكُن- بِغُنَّةٍ لدى *** باءٍ -على المختارِ مِن أهلِ الأَدَا-
يقول عالِمُ الأصواتِ الدكتورُ غانم قَدُّوري الحمَد في كتابه: «أبحاث في علم التجويد» (ص142): «والمأخوذ به في زماننا عند أهل الأداء هو الإخفاء، وهو المنصوص عليه في الكتب المؤلفة في علم التجويد في عصرنا، ويسميه بعضُهم: (الإخفاء الشفوي) -تمييزا له عن أخفاء النون-، ولكنهم مختلفون في النطق به؛ فمنهم من يطبق شفتيه عند النطق بالصوتين، ومنهم من يجافي بينهما»، ثم قال: «المتأمِّل لنُطقِ الْمُجِيدين مِن قراء القرآن في زماننا يجد أنهم ينقسمون على قسمين في كيفية النطق بالميم المخفاة قبل الباء:
- فمنهم من يجافي بين شفتيه قليلا عند النطق بالميم ثم يطبق شفتيه إذا انتقل إلى نُطْقِ الباء بعدَها، وهو المشهور في الديار المصرية ومَن أخذ عن قُرّائها.
- ومنهم من لا يجافي بين شفتيه عند النطق بالميم، ويطبق شفتيه للميم والباء، وهو المشهور في الديار العراقية [والشامية].
وقد تحققتُ من ذلك بالأخذ عن الشيوخ والسؤال عنه؛ فقد كنت أتردد على الشيخ عامر السيد عثمان وقت إقامتي بالقاهرة لدراسة الماجستير، فكان لا يَقْبلُ ممن يقرأ عليه أن يُطبق شفتيه عند نطق اليم الساكنة قبل الباء، ويأبى إلا انفراجَهما.
وقد صرت أسأل قراء العراق الذين ألتقي بهم عن ذلك، فكانوا يَقْرَؤون بإطباق الشفتين للصوتين معا، ولا يأخذون بانفراجهما مع الميم.
ولم أجد في كتب التجويد القديمة مَن أشار إلى انفراج الشفتين عند النطق بإخفاء الميم الساكنة عند الباء، بل وجدتُ المؤلفين ينُصّون على انطباق الشفتين للصوتين معا، فيقول الداني: «هي مخفاة؛ لانطباق الشفتين عليهما كانطباقهما على إحداهما»، وقال والدُ ابنِ الباذِش: «إلّا أن يريد القائلون بالإخفاء انطباق الشفتين على الحرفين انطباقا واحدا، فذلك ممكن في الباء وَحْدَهَا [-يعني: دون الفاء والواو-]، نحو: أكرِم بزيدٍ».
[وقال ابنٌ الجزري في «النشر» (1/ 297): «...ثُمَّ إِنَّ الْآخِذِينَ بِالْإِشَارَةِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَجْمَعُوا عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْمِيمِ عِنْدَ مِثْلِهَا وَعِنْدَ الْبَاءِ، وَعَلَى اسْتِثْنَاءِ الباء عند مِثْلِهَا وَعِنْدَ الْمِيمِ. قَالُوا: لِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَتَعَذَّرُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ انْطِبَاقِ الشَّفَتَيْنِ.
قُلْتُ: وَهَذَا إِنَّمَا يَتَّجِهُ إِذَا قِيلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِشَارَةِ الْإِشْمَامُ، إِذْ تَعْسُرُ الْإِشَارَةُ بِالشَّفَةِ وَالْبَاءُ وَالْمِيمُ مِنْ حُرُوفِ الشَّفَةِ، وَالْإِشَارَةُ غَيْرُ النُّطْقِ بِالْحَرْفِ، فَيَتَعَذَّرُ فِعْلُهُمَا مَعًا فِي الْإِدْغَامِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَصْلٌ، وَلَا يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ الْإِشْمَامَ فِيهِ ضَمُّ الشَّفَتَيْنِ بَعْدَ سُكُونِ الْحَرْفِ، وَلَا يَقَعَانِ مَعًا» اهـ.
وقال طاهر بن غلبون في كتابه: «التذكرة في القراءات الثمان» (ص91): «واعلم أن اليزيدي وعبد الوارث وشجاعا رَوَوْا عن أبي عمرٍو البصري أنه لم يكن يُشِمُّ في الميم والباء -مثل: {والله أعلم بما}-، وروى عباسٌ عن أبي عمرٍو أنه كان يشم الباء والميم ويشم في سائر الحروف. وبما روى اليزيدي آخُذُ؛ لصحته؛ وذلك أنه إنما يعني بالإشمام هاهنا أنه يشير إلى حركة الرفع والخفض في حال الإدغام؛ ليدل على أن هذا الحرف المدغَم يستحق حركةَ هذه الحركةِ في حال الإظهار؛ حرصا على البيان، وذلك متعذر في الميم مع الميم، وفي الباء مع الباء؛ من أجل انطباق الشفتين فيهما، وأما الميم مع الباء فهي مخفاة لا مُدَّغَمَة، والشفتان أيضا ينطبقان معهما» اهـ.
وقال عبد الوهاب القرطبي في «الموضح» (ص97): «وأمّا حروف الغنّة فالنون -ساكنةً ومتحرّكةً- والميمُ، إلاّ أنّ الميم أقوى من النون؛ لأنّ لفظها لا يزول، ولفظ النون قد يزول فلا يبقى منها إلاّ الغنّة ...» اهـ بواسطة نقل محمد يحيى شريف الجزائري. ثم قال شريف -معلقا-: «فقوله -رحمه الله- أنّ الميم لا تزول؛ يعني أنّ الشفتين تنطبقان في الميم في جميع الأحوال حتّى في الإخفاء، لذلك لم تزُلْ، بخلاف النون المخفاة؛ فإنّها تزول عند الإخفاء؛ لانفصال طرف اللسان عن الحنك، فلا بيقى من صوتها إلا الغنّة. ولو تركنا الفرجة في إخفاء الميم لزالت كما في النون. فإخبار صاحب «الموضح» أنّ الميم لا تزول دلّ على أنّ الشفتين تنطبقان في الميم في جميع الحالات» اهـ. قلت: وهو استنتاج جيد.].
ووجدتُ المصادر المتأخرة تشير إلى عدم المبالغة في إطباق الشفتين مع الميم قبل الباء.
وقد أثبتَ بعض المؤلفين المعاصرين القولَ بانفراج الشفتين عند النطق بالميم المخفاة، وهذه قضية تستدعي النظر والتأمل، ومن المحتمل أنها تطورت عن تأكيد العلماء المتأخرين على تقليل انطباق الشفتين عند النطق بالميم المخفاة، فبالغ بعضهم في تقليل الانطباق حتى أدى ذلك إلى انفراجهما، وهذا أمرٌ لا نملك القطعَ به؛ لأن كِلا الفريقين يحتج بالرواية عن الشيوخ والمشافهة عنهم. والله أعلم.
ولكني أرجّح الرواية التي تتطابق مع وصف علماء التجويد المتقدمين لنطق الميم المخفاة، وهي التي تؤكد على انطباق الشفتين عند النطق بالميم؛ لأن القول بانفراجهما لم تشر إليه المصادر القديمة، ولأنه لا يتوافق مع نظرية: (السهولة في نطق الأصوات) التي تتحقق عند النطق بانطباق الشفتين أكثر مما تتحقق عند النطق بانفراجهما». انتهى كلام الدكتور الحمد باختصار وزيادات.
ثم نشَر الدكتور الحمَد بحثا في مجلة: «الفرقان» التي تصدرها جمعية المحافظة على القرآن الكريم بعمان (العدد 40) عَزَّزَ فيه هذه النتيجة التي رجَّحَها، حيث قال:
«...وكنت قد درست هذا الموضوع، وجمعت أقاويل العلماء فيه في وقت سابق. والذي جعلني أعود إليه هو أني وقفت على أدلة جديدة تعزّز ما رجحتُه من قَبْلُ في كيفية نطق الميم المخفاة عند الباء. ويمكن أن أعرض تلك الأدلة من خلال تقسيمها إلى دليل نقلي وآخر عقلي:
أولا - الدليل النقلي:
وقفت مؤخراً على نص يؤكد بشكل واضحٍ انطباقَ الشفتين في إخفاء الميم عند الباء؛ فقد قال عبد الواحد بن محمد بن علي بن أبي السداد أبو محمد المالقي (ت 705هـ) في [شرحه على «التيسير» للداني] المسمى: «الدر النثير والعذب النمير» (ص44) -وهو يتحدث عن قلب النون الساكنة والتنوين ميماً قبل الباء-: «لا خلاف في لزوم القلب في جميع هذه الأمثلة وما أشبهها، وحقيقة القلب هنا أن تَلْفِظَ بميم ساكنة بدلاً من النون الساكنة، ويُتَحَفَّظُ من سريان التحريك السريع، ومعيار ذلك: أن تنظر كيف تلفظ بالميم في قولك: الخَمْر، و: الشَّمْس، فتجد الشفتين تنطبقان حال النطق بالميم ولا تنفتحان إلا بالحرف الذي بعدها، وكذا ينبغي أن يكون العمل في الباء، فإن شرعتَ في فتح الشفتين قبل تمام لفظ الميم سَرَى التحريكُ إلى الميم -وهو من اللحن الخفي الذي ينبغي التَّحَرُّزُ منه-، ثم تلفظ بالباء متصلة بالميم، ومعها تنفتح الشفتان بالحركة، وَلْيُحْرَزْ عليها ما تستحقه من الشدة والقلقلة».
وهذا النص وإن كان يختص بنطق الميم المنقلبة عن النون الواقعة قبل الباء في مثل: {أن بُورِكَ} - فإنه ينطبق على نطق الميم الساكنة قبل الباء في مثل: {وما لَهُمْ بِه}. يؤكد ذلك قولُ عبد الوهاب القرطبي (ت 461هـ) في «الموضح» (ص175):» فلا يوجد في اللفظ فرق بين قوله: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} وبين قوله: {أَنْبِئُونِي}، سواء كان ما قبل الباء نوناً أو ميماً، لا فرق بينهما، كلُّه في اللفظ سواء».
كما يدل عليه عدمُ تفريق أهل الأداء في زماننا بين الحالتين.
والمالقي -صاحب القول السابق- قال عنه ابن الجزري في «غاية النهاية» (1/ 477) : «أستاذ كبير، شرحَ كتاب التيسير شرحًا حسنًا، أفاد فيه وأجاد». وقال في [المصدر نفسِه] (1/ 242) : «قرأ على عدد من شيوخ الإقراء في زمانه، منهم الحسين بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الأحوص المعروف بابن الناظر، الأستاذ المجوِّد ...، تصدر للإقراء بمالقة، وألَّف كتاباً كبيرًا حسنًا في التجويد، سمَّاه: «الترشيد». قال أبو حيَّان: رحلت إليه قصداً من غرناطة لأجل الإتقان والتجويد».
والتعريف بالمالقي وكتابِه يحتمل تفصيلاً أكثر من هذا، لكن خشية الإطالة تمنع من ذلك الآن، ولعل القارئ يدرك مما ذكرته عنه منزلةَ الرجل، وعلوَّ قدره في علم التجويد، وقيمةَ رأيه العلمي في الموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه. وأحسب أن قوله السابق مستغن عن التعليق؛ لوضوح دلالته على وجوب انطباق الشفتين عند نطق الميم الساكنة قبل الباء، بل هو يجعل انفتاحَهما من اللحن الخفي! 
ثانيا - الدليل العقلي: 
إن مذهب من يفتح شفتيه في نطق الميم الساكنة قبل الباء يثير إشكالاً صوتيّاً؛ لأن التأثر بين الأصوات المتجاورة يخضع لضوابط أو قوانين محددة، ونُطْقُ كلا الصوتين -الميم والباء- يقتضي انطباق الشفتين، والفرق بينهما أن النَّفَسَ يجري مع الميم من الأنف، ويخرج مع الباء من الشفتين، وانفراجُ الشفتين أو انفتاحهما قليلًا في مذهب بعض القراء يأتي بعنصرٍ صوتيٍّ جديد لا وجود له في العملية النطقية، كما أنه قد يزيد العملية النطقية صعوبة، ومن ثَمَّ فإن ذلك يرجح مذهب من يطبق شفتيه، على نحو ما يتضح من البيان الآتي: 
أ- انفتاح الشفتين يضيف عنصرًا صوتيًّا جديدًا: 
يخضع التغير الذي يلحق الأصوات اللغوية بسبب المجاورة في التركيب - إلى ضوابط مطّردة، أو قوانين صوتية ثابتة، ومن تلك القوانين: أن التأثر بين صوتين متجاورين لا يأتي بعناصر صوتية جديدة ليست في أحد ذَيْنِكَ الصوتين، فأيّ تغيير صوتي يلحق أحد الصوتين إنما يستمده من مكونات الصوت المجاور له، فتجاوُرُ صوتين أحدُهما مجهور والآخرُ مهموس قد يؤدي إلى تأثرِ أحدِهما بالآخر في إحدى هاتين الصفتين، وكذلك تجاور صوتين في أحدهما صفةُ الإطباقِ قد يؤدي إلى تأثرِ الصوت الآخرِ بها، ويمكن ملاحظة ذلك في مثل قول الله -تعالى-: {قَدْ تَبَيَّنَ}، و{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ}. وصفةُ انفراجِ الشفتين أو انفتاحِهما -التي تظهر في مذهب بعض أهل الأداء عند إخفاء الميم الساكنة عند الباء- ليست من مكونات أيٍّ من الصوتين، ومن ثَمَّ فإن ذلك جاء خارجًا عن القوانين الصوتية التي تخضع لها ظاهرة التأثر بين الأصوات المتجاورة في السلسلة الكلامية.
ب- انفتاح الشفتين يزيد النطق صعوبة: 
إن تأثر الأصوات بعضها ببعض حين تتجاور في الكلام يهدف إلى تحقيق أمرين:
الأول- السهولة في النطق عن طريق التقريب بين صفات الأصوات المتجاورة. 
والآخر- الاقتصاد في المجهود عن طريق اختصار حركات أعضاء النطق.
وإذا حلَّلنا ظاهرة التقاء الميم الساكنة بالباء في ضوء هذين الأمرين سنجد أن انفتاح الشفتين بالميم يؤدي إلى زيادةٍ في عمل أعضاء النطق، ويأتي بعنصرٍ صوتيٍّ جديدٍ يتنافى مع مقصد التقريب بين الأصوات واختصار عملية النطق. 
أما انطباق الشفتين في نطق الميم الساكنة والباء فإنه أقرب إلى تحقيق مقصد السهولة في النطق والاقتصاد في المجهود، فتندمج عملية انطباق الشفتين لنطق الميم بعملية انطباقهما لنطق الباء، سوى أن الناطق يرخي أقصى الحَنَكِ الليِّنِ عند نطق الميم ليجري الصوت في الخياشيم ثم يطبقه عند نطق الباء ليتحقق النطق بالباء شديدة، ويخرجُ الصوت من بين الشفتين بعد انفتاحهما.
وما ذكرته من الدليل النقلي مع الدليل العقلي يرجح رواية من يطبق شفتيه عند نطق الميم المخفاة قبل الباء، لكن ذلك الانطباق أخف من انطباقهما في الباء؛ لأن انطباقهما في الميم القصدُ منه وَضْعُ عائقٍ في طريق النَّفَس لمنع خروجه من الفم، وتحويله إلى الخياشيم، وذلك يتحقق بأدنى انطباق، أما انطباقهما في نطق الباء فإن القصد منه تحقيق صفة الشدة، وهي لا تتحقق إلا بتقوية الانطباق، وصرَّح المرعشيُّ في «جهد المقل» (ص202) بذلك في قوله: «وبالجملة إن الميم والباء يخرجان بانطباق الشفتين، والباء أَدْخَلُ وأقوى انطباقًا، فتَلْفِظُ بالميم في: {أنْ بُورِكَ} بغنة ظاهرة وبتقليلِ انطباقِ الشفتين جدًّا، ثم تلفِظُ بالباء قبل فتح الشفتين بتقوية انطباقهما، وتجعل المنطبق من الشفتين أدخل من المنطبق في الميم» اهـ. كلام الدكتور الحمد -بتصرف-؛ بواسطة نقل الدكتور إبراهيم الجوريشي.
ويَذْكُر الدكتور أيمن سويد: «إن أحكام التجويد كلها موجودة في كلام العرب، ولم يتميز النص القرآني عن الكلام العربي الفصيح إلا في أربعة أمور:
- التغني به.
- تطويل الغنن.
- تطويل المدود.
- السكت.
والعرب كانت تُخفي الميم الساكنة عند الباء، فكان العربي عندما يقول: «أكرِم به» ينطقها بإطباقٍ على ميم ثم فَتْحٍ على باء، ولم يَرِد عن أحد من العرب أنه كان يجعل فرجةً عند هذا الإخفاء.
أيضا؛ الإنسان بفطرته -عربيا كان أو أعجميا- يميل إلى السهولة في النطق، فكيف يَتْرُكُ الإطباق الذي هو أسهل ويذهب إلى النطق بالفرجة الذي هو أصعب وفيه من التكلف والمشقة ما فيه؟! فإذَن هذه الفرجة خلاف الفطرة.
أضف إلى ذلك أنه لا يوجد نَصٌّ البتّة عن أحدٍ من أهل الأداء المتقدمين صَرَّح بهذه الفرجة، وأنا أتحدى مَن يقولون بالفرجة أن يأتوني بنصٍّ واحد صريحٍ في ذلك» اهـ بمعناه ملخَّصًا مِن مجموعة مقاطع صوتية.
أمرٌ آخر؛ القائلون بالفرجة تجدهم مختلفين في مقدارها؛ 
- فبعضهم يحددها بأن يبقى بين الشفتين مقدار سُمْكِ الورقة.
- وبعضهم أكثر من هذا بقليل.
- وبعضهم يجعل الفرجة من الوسط فقط دون الجانبين.
- وبعضُهم يجعلُها بين الشفتين من الزاوية إلى الزاوية.
فهم لم يتفقوا على مقدارها، وهذا يجعلُنا نضع علامةَ استفهامٍ على هذا القول نحتاجُ مِنهم مَن يُجيبُنا عنها.
وقد ناقشَ مجلسُ شيوخِ قُرّاءِ الشام –برئاسة الشيخ محمد كُرَيّم راجح- القولَ بالفُرْجَةِ في إحدى جلساتِه، وقرَّروا –بالإجماع- أن إخفاء الميم الساكنة عند الباء يكون بانطباق الشفتين من غير إبقاءٍ لفُرجَةٍ بينهما، وذكروا أنه هذا هو الذي قرؤوا به على شيوخهم. هذا ما أذكُرُه بخصوص هذا الاجتماع، ومع الأسف! الكتابُ الذي ذَكَر ما حصل في هذه الجلسة ليس بحوزتي الآن، واسمُه: «علم التجويد.. أحكام نظرية، وملاحظات تطبيقية (المستوى الثاني)» للدكتور يحيى الغوثاني، وليتَ مَن كان عنده هذا الكتاب ينقلُ لنا نَصَّ ما جاء فيه.
وقد سألتُ عن هذه المسألةِ شيخي إبراهيم بن محمد كشيدان -وهو كان قد قرأ القراءات العشر على عددٍ من قُرَّاء سوريا ومِن بينِهِم الشيخ بكري الطرابيشي-؛ فقال لي: «كلّ مشايخي أقرؤوني بالإطباق، وقرؤوا على شيوخهم بالإطباق، وشيوخُهم قرؤوا على شيخ القراء محمد سليم الحلواني بالإطباق» اهـ.
ويقول الدكتور وليد المنيسي: «لقد منّ الله علي بقراءة القرآن الكريم بالقراءات العشر الصغرى والكبرى والأربع الشواذ على جماعة من الأعلام، وكلُّ مَن أقرأني قد قرأ على جماعة من الأعلام، وكلهم نقلوا لي عن مشايخهم أنهم كانوا يقرؤون في الإقلاب وفي الإخفاء الشفوي بانطباق الشفتين. 
وقد سألت عن هذه المسألة شيخي الشيخ محمد عبد الحميد عبد الله الإسكندري -وهو مساوٍ للشيخ الزيات في سنده في القراءات العشر الكبرى، وقد قرأ على العلامة عبد الرحمن الخليجي صاحب المصنفات الشهيرة -رحمه الله- قبل أكثر من خمسين سنة-، فأخبرني أن شيخه الخليجي كان يقرئ بانطباق الشفتين، وأنه لم يسمع بالانفتاح إلا مؤخرًا. 
وكذا حدثني شيخي الشيخ إيهاب فكري حيدر عن مشايخه -كالزيات، ومحمد عيد عابدين، وأحمد مصطفى- أنهم يقرؤون بالانطباق.
وكذا حدثني شيخي الشيخ عباس بن مصطفى أنور المصري -وهو من أكثر القراء رحلة في طلب الأسانيد العالية في القرآن، وقد قرأ على جماعة، منهم: الزيات، ومحمد عبد الحميد، والطرابيشي، وغيرهم-، وكان من أشد الناس استنكارا للانفتاح المُحْدَث، ولا يُقرئ إلا بالانطباق.
ثم إن الشيخ عامرا -رحمه الله- تبنى مذهبا شاذا في مخرج الضاد، أولُ من قال به في قراءة القرآن ابنُ غانم المقدسي، وقام عليه قُرَّاءُ عصره، واستَكتَبوا مشايخه؛ فكتبوا أنهم بريئون من ذلك ولم يقرئوه به، ثم بعده بِقُرُونٍ قال به المرعشيُّ، وعَقَدَ له مشايخُ القراء في عصره مجلسا لاستتابته -في قصة مشهورة-، ثم أحياه الشيخ عامر، مع اتفاق كل من قرأ على مشايخ الشيخ عامر بأنهم لم يتلقوا ذلك عن مشايخهم، وهذا يؤكد أن الشيخ عامرا ربما اجتهد في مسائل وقرأ بأشياء لم يقرئه بها مشايخُه، وأنا لا أنتقص من جلالة الشيخ عامر -رحمه الله- ولكن الحق أحق أن يتبع» اهـ كلام الدكتور المنيسي. 
وقد سألَ بعضُ قُرّاء الإسكندريةِ شيخةَ شيوخي أمَّ السّعْد الإسكندرانيةَ عن كيفية أداءِ الإخفاء الشفوي، فذكَرَت –مما ذَكَرَت- أنهم قبل أن يقول بها الشيخ عامر السيد عثمان لم يكونوا يعرفونها، وإنما كانوا يقرؤون بالإطباق، وأنها قرأت على شيختها نَفِيسةَ بالإطباق. وكلامُها مسجَّل بالصوت والصورة ومتوفر على الشبكة.
وقد تركتُ عددا من النقول عن المشايخ المعاصرين المصريين في إثبات الإطباق؛ خشية الإطالة.
واعلم أن الشيخ عامرًا قد قالها بالقياس على النون، ووَجَدَ بعضَ النصوصِ المحتمِلة فعَضَد بِها قياسَه!
وكثيرٌ ممن يتبنّى قولَه يحتجون بالقياس؛ يقولون: إن الإخفاء لا بد أن يزول فيه الجزء الفموي.
ونحن نقول لهم: لماذا تقيسون على إخفاء النون عند الطاء والدال والتاء والجيم وغيرها وتَغْفلون أو تتغافلون عما نتفق عليه مع أكثرِكم مِن أننا عندما نخفي النون عند القاف والكاف نلصق أقصى اللسان بسقف الحلق إلصاقا كاملا فلا ينفذ منه صوت؟! 
لماذا لم تقولوا في هذا أيضا: (إنه إظهار بغنَّة ولا بد لنا أن نجافي بين أقصى اللسان والحنك حتى نحقق الإخفاء)؟! ولِمَ أعْملتُم القياس في مقابل النقل؟!
لو أنكم تأملتم إخفاء النون عند القاف والكاف وقارنتموه بالإخفاء الشفوي لظهر لكم أن كلتا الحالتين مشتركتان في أنهما تصحبهما غنة، وأنهما يُغلق عندهما الجزء الفموي تماما عند مخرج الحرف التالي. 
فالإخفاء الشفوي هو من هذا القبيل؛ أي إن إغلاق الشفتين فيه إنما هو من أجل الباء لا من أجل الميم. كل ما في الأمر أن القاف والكاف من غير مخرج النون بينما الباء تخرج من مخرج الميم نفسِه، فلهذا السبب وقع الإشكال.  
وإنّ وجود الغنة عند الإخفاء الشفوي تجعل الإخفاء الشفوي يفارق الإظهار؛ لأن الإظهار لا غنة معه –كما هو معروف-، فهذه علةٌ مانعةٌ من الحكم عليه بأنه إظهار –إن سلّمنا بأن الإظهار يؤدَّى هكذا-، فحينئذ لا حاجة إلى تكلُّف أمرٍ زائدٍ بحجةِ أنه أُتيَ به للتفريق بين الإظهار والإخفاء.
ثم إننا لا نعلم بالتلقي كيفيةَ إظهار الميم عند الباء أصلا؛ لأنه لا سندَ لهَا متصلٌ في وقتنا –وربما قبل وقتنا-، فكيف إذن نحكم على ما لم نتصوره تصورا تاما واضحا؟! 
والقاعدة المعروفة عند العقلاء: الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره.
فأثبِتوا العرش ثم انقُشوا!
يا ليتنا نلتزم بالتلقي ولا نُعمِل العقول فيما لا مجال لتدخُّلها فيه!
ثم ليَعلمِ القارئُ أن الكزَّ الذي حذَّرَ مِنهُ بعض الأئمة ليس هو الإطباق -كما يدّعيه البعض رادًّا علينا به في هذه المسألة-؛ وإنما المراد بالكَزِّ في كلامهم: الضغطُ الزائدُ المبالَغُ فيه على الشفتين عند الإخفاء، فهو -إذَن- مبالَغَةٌ في الإطباق، وليس هو الإطباق الذي نعنيه بكلامنا السابق، وقد سبقت الإشارة إلى هذا في كلام الدكتور الحمد.
فالحاصل أن القول بالإطباق هو الصواب، وأقوال الأئمة التي نقلتُها في الأعلى واضحة وضوح الشمس في إثبات الإطباق، وكذلك عدمُ تنبيهِ الكثير مِن الأئمة -مِن غيرِ الذين نقلتُ عنهم- على إبقاء هذه الفرجة -مع وجود الحاجة إلى البيان، وعدم المانع- يزيد هذا الاستنتاجَ قوةً.
فهذا الحق ما به خفاء *** فدعني عن بنيات الطريق.
هذا ما ظهر لي من خلال البحث في هذه المسألة، فإن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان وأستغفر الله من ذلك.
والله -تعالى- أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه
علي المالكي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.