بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد بَلَغَنِي أنَّ أحدَ معلمي القرآن من الجنوب الليبي يقول: (إن ضم الشفتين عند أداء الإشمام في (سيء) و(سيئت) يبدأ من أول النطق بغنة الإخفاء التي قبل السين)!
وحكى هذا المذهبَ عن أحدِ المعلمين المشهورين بمدينة طرابلس.
وهذا المذهب باطلٌ بلا شك، سواء من الناحية العقلية أم من الناحية النقلية.
أما من الناحية العقلية؛ فقولهم هذا يعني النطق بإخفاء مُشَمٍّ، وهذا أمر لا وجود له في التجويد.
وحتى لو تَنَزَّلْنَا معهم في ذلك فهل كل كلمة من كلمات هذا الباب مسبوقة بتنوين مُخفى؟
الجواب: لا. ويكفينا في هذا مثال واحد يتضح به المقام وتقوم به عليهم الحجة..
في قوله تعالى: {وغيض الماء} الفعل (غيض) مسبوق بواو مفتوحة، فإذا قرأ هؤلاء بقراءة الكسائي أو رواية هشام أو رواية رويس فكيف سيفعلون؟ من أين سيأتون بتنوين مخفى؟ ونحن نعلم أن كلمات هذا الباب مجراها واحد.
وأما من الناحية النقلية (وهي الأهم)؛ فالمعروف عند علماء هذا الفن أن في كلمات هذا الباب مذهبين: الشيوع والإفراز.
أما الشيوع فأن تنحو بكسرةِ فاءِ الفعلِ نحو الضمة قليلا، وتميل الياء الساكنة بعدها نحو الواو قليلا؛ لأنها تابعة لحركة ما قبلها.
وأما الإفراز فأن تجعل فاءَ الفعل محركةً بحركتين متتاليتين، أُولاهما ضمة، والثانية كسرة، ويكون زَمَنُ جزءِ الضمّةِ أقلَّ مِن زَمَنِ جزءِ الكسرةِ، ثم تُتبِعُ هذه الكسرة بياء مدية محضة، وهذه الياء هي عين الفعل، وسببُ تمحُّضِها أن الذي سبقها هو جزء الكسرة.
والمذهب الأول هو اختيار الداني والشاطبي وكثير من العلماء
قال الداني في «جامع البيان»: «وحقيقة الإشمام في هذه الحروف: أن تنحى بكسر أوائلها نحو الضمة يسيرا؛ دلالةً على الضم الخالص قبل أن تُعَلَّ» اهـ.
قال الشاطبي:
وقِيلَ وغِيضَ ثمّ جيء يُشِمُّها
لدى كسـرِها ضـمّا رجـالٌ لِتَكْمُـلا
وحِيلَ بإشمامٍ وسيقَ كما رَسَا
وسيء وسيئت كان راويه أَنْبَلا
قال السخاوي: «وحقيقة هذا الإشمام: أن تنحو بكسرة فاء الفعل نحو الضمة، فتمالُ كسرةُ فاءِ الفعل، وتميل الياء الساكنة بعدها نحو الواو قليلا؛ إذ هي تابعة لحركة ما قبلها.
والعلماء يعبرون عن هذا بالإشمام، والروم، والضم، والإمالة.
وإنما اختار من هذه الألفاظ الإشمام لأنها عبارة عامة النحويين وجماعة من القراء المتأخرين، وفي العبارة بها تنبيه على أن أول الفعل لا يُكسر كسرة خالصة.
والذين سموه رومًا قالوا: هو روم في الحقيقة، وتسميته بالإشمام تَجَوُّزٌ في العبارة.
والذين سموه ضما -وهم عامة القراء- فإنما عبروا عنه بذلك كما عبروا عن الإمالة بالكسر تقريبا ومجازا، لأن الممال فيه كسر، وهذا فيه شيء من الضم.
والذين عبروا عنه بالإمالة فلأنه قد دخله من الخلط والشوب ما دخَل الإمالة، فالحركة ليست بضمة محضة ولا كسرة خالصة، كما أن الإمالة ليست بكسر محض ولا فتحٍ خالص» اهـ ملفقا من موضعين من شرحه.
وقال أبو شامة في (إبراز المعاني): «والمراد بالإشمام في هذه الأفعال أن ينحى بكسر أوائلها نحو الضمة وبالياء بعدها نحو الواو، فهي حركة مركبة من حركتين كسر وضم، لأن هذه الأوائل وإن كانت مكسورة فأصلها أن تكون مضمومة؛ لأنها أفعال ما لم يسم فاعله؛ فأشمت الضم دلالة على أنه أصل ما يستحقه، وهو لغة للعرب فاشية، وأبقوا شيئا من الكسر تنبيها على ما استحقته هذه الأفعال من الاعتلال» اهـ.
وقال أبو محمد المالقي في شرحه على (التيسير): «اعلم أن حقيقة هذا الإشمام أن تضم شفتيك حال النطق بكسرة القاف من {قيل} والغين من {غيض} والجيم من {جائ}، فيخرج صوت الكسرة مشوبا بشيء من لفظ الضمة من غير أن ينتهي إلى الضم الخالص، ويصحب الياء التي بعد هذه الكسرة شيء من صوت الواو من غير أن ينته إلى الواو الخالصة، بل لا بد من أن يكون الغالب في النطق لفظ الكسرة ولفظ الياء» اهـ.
إلى غير ذلك من النقول.
وهذه الكيفية هي التي يُحمل عليها كلامُ الشاطبي؛ إذ هي التي يدل عليها ظاهرُ كلامِه، إضافة إلى أن السخاوي تلميذ الشاطبي نصَّ عليها، وهو أدرى بمذهب شيخه وبمراده بكلامه، وكذا أبو شامة تلميذ السخاوي أدرى بمذهب شيخ شيخه وبكلامه من غيره ممن لم يحظَ بهذه المنزلة، إضافة إلى أنها مُختارُ الداني نَصًّا في (التيسير) الذي هو أصل (الشاطبية).
وأما المذهب الثاني فقد قال به كثير من القراء من المتقدمين والمتأخرين، منهم الجعبري والنويري وابن البناء والضباع وغيرهم، وهو المذهب المشهور في عدد من البلدان في زماننا، إلا أنه ليس هو المختار من طريق (الشاطبية) -على الصحيح-، وإن قال به كثير من شراحها؛ لأن الأدلة تدل على خلافِ ما قالوا -كما سبق-.
فبهذا كله يتبين لنا أن ما ذكره أولئك الناس لا حظ له من نقلٍ ولا عقل.
فأدعوهم (وفقنا الله وإياهم!) إلى الرجوع إلى الصواب وعدم الابتداع في القراءة، فإن هذا العلم مبناه على الاتباع لا على الابتداع، وشعارُ القراء: (القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
كتبه
علي المالكي
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد بَلَغَنِي أنَّ أحدَ معلمي القرآن من الجنوب الليبي يقول: (إن ضم الشفتين عند أداء الإشمام في (سيء) و(سيئت) يبدأ من أول النطق بغنة الإخفاء التي قبل السين)!
وحكى هذا المذهبَ عن أحدِ المعلمين المشهورين بمدينة طرابلس.
وهذا المذهب باطلٌ بلا شك، سواء من الناحية العقلية أم من الناحية النقلية.
أما من الناحية العقلية؛ فقولهم هذا يعني النطق بإخفاء مُشَمٍّ، وهذا أمر لا وجود له في التجويد.
وحتى لو تَنَزَّلْنَا معهم في ذلك فهل كل كلمة من كلمات هذا الباب مسبوقة بتنوين مُخفى؟
الجواب: لا. ويكفينا في هذا مثال واحد يتضح به المقام وتقوم به عليهم الحجة..
في قوله تعالى: {وغيض الماء} الفعل (غيض) مسبوق بواو مفتوحة، فإذا قرأ هؤلاء بقراءة الكسائي أو رواية هشام أو رواية رويس فكيف سيفعلون؟ من أين سيأتون بتنوين مخفى؟ ونحن نعلم أن كلمات هذا الباب مجراها واحد.
وأما من الناحية النقلية (وهي الأهم)؛ فالمعروف عند علماء هذا الفن أن في كلمات هذا الباب مذهبين: الشيوع والإفراز.
أما الشيوع فأن تنحو بكسرةِ فاءِ الفعلِ نحو الضمة قليلا، وتميل الياء الساكنة بعدها نحو الواو قليلا؛ لأنها تابعة لحركة ما قبلها.
وأما الإفراز فأن تجعل فاءَ الفعل محركةً بحركتين متتاليتين، أُولاهما ضمة، والثانية كسرة، ويكون زَمَنُ جزءِ الضمّةِ أقلَّ مِن زَمَنِ جزءِ الكسرةِ، ثم تُتبِعُ هذه الكسرة بياء مدية محضة، وهذه الياء هي عين الفعل، وسببُ تمحُّضِها أن الذي سبقها هو جزء الكسرة.
والمذهب الأول هو اختيار الداني والشاطبي وكثير من العلماء
قال الداني في «جامع البيان»: «وحقيقة الإشمام في هذه الحروف: أن تنحى بكسر أوائلها نحو الضمة يسيرا؛ دلالةً على الضم الخالص قبل أن تُعَلَّ» اهـ.
قال الشاطبي:
وقِيلَ وغِيضَ ثمّ جيء يُشِمُّها
لدى كسـرِها ضـمّا رجـالٌ لِتَكْمُـلا
وحِيلَ بإشمامٍ وسيقَ كما رَسَا
وسيء وسيئت كان راويه أَنْبَلا
قال السخاوي: «وحقيقة هذا الإشمام: أن تنحو بكسرة فاء الفعل نحو الضمة، فتمالُ كسرةُ فاءِ الفعل، وتميل الياء الساكنة بعدها نحو الواو قليلا؛ إذ هي تابعة لحركة ما قبلها.
والعلماء يعبرون عن هذا بالإشمام، والروم، والضم، والإمالة.
وإنما اختار من هذه الألفاظ الإشمام لأنها عبارة عامة النحويين وجماعة من القراء المتأخرين، وفي العبارة بها تنبيه على أن أول الفعل لا يُكسر كسرة خالصة.
والذين سموه رومًا قالوا: هو روم في الحقيقة، وتسميته بالإشمام تَجَوُّزٌ في العبارة.
والذين سموه ضما -وهم عامة القراء- فإنما عبروا عنه بذلك كما عبروا عن الإمالة بالكسر تقريبا ومجازا، لأن الممال فيه كسر، وهذا فيه شيء من الضم.
والذين عبروا عنه بالإمالة فلأنه قد دخله من الخلط والشوب ما دخَل الإمالة، فالحركة ليست بضمة محضة ولا كسرة خالصة، كما أن الإمالة ليست بكسر محض ولا فتحٍ خالص» اهـ ملفقا من موضعين من شرحه.
وقال أبو شامة في (إبراز المعاني): «والمراد بالإشمام في هذه الأفعال أن ينحى بكسر أوائلها نحو الضمة وبالياء بعدها نحو الواو، فهي حركة مركبة من حركتين كسر وضم، لأن هذه الأوائل وإن كانت مكسورة فأصلها أن تكون مضمومة؛ لأنها أفعال ما لم يسم فاعله؛ فأشمت الضم دلالة على أنه أصل ما يستحقه، وهو لغة للعرب فاشية، وأبقوا شيئا من الكسر تنبيها على ما استحقته هذه الأفعال من الاعتلال» اهـ.
وقال أبو محمد المالقي في شرحه على (التيسير): «اعلم أن حقيقة هذا الإشمام أن تضم شفتيك حال النطق بكسرة القاف من {قيل} والغين من {غيض} والجيم من {جائ}، فيخرج صوت الكسرة مشوبا بشيء من لفظ الضمة من غير أن ينتهي إلى الضم الخالص، ويصحب الياء التي بعد هذه الكسرة شيء من صوت الواو من غير أن ينته إلى الواو الخالصة، بل لا بد من أن يكون الغالب في النطق لفظ الكسرة ولفظ الياء» اهـ.
إلى غير ذلك من النقول.
وهذه الكيفية هي التي يُحمل عليها كلامُ الشاطبي؛ إذ هي التي يدل عليها ظاهرُ كلامِه، إضافة إلى أن السخاوي تلميذ الشاطبي نصَّ عليها، وهو أدرى بمذهب شيخه وبمراده بكلامه، وكذا أبو شامة تلميذ السخاوي أدرى بمذهب شيخ شيخه وبكلامه من غيره ممن لم يحظَ بهذه المنزلة، إضافة إلى أنها مُختارُ الداني نَصًّا في (التيسير) الذي هو أصل (الشاطبية).
وأما المذهب الثاني فقد قال به كثير من القراء من المتقدمين والمتأخرين، منهم الجعبري والنويري وابن البناء والضباع وغيرهم، وهو المذهب المشهور في عدد من البلدان في زماننا، إلا أنه ليس هو المختار من طريق (الشاطبية) -على الصحيح-، وإن قال به كثير من شراحها؛ لأن الأدلة تدل على خلافِ ما قالوا -كما سبق-.
فبهذا كله يتبين لنا أن ما ذكره أولئك الناس لا حظ له من نقلٍ ولا عقل.
فأدعوهم (وفقنا الله وإياهم!) إلى الرجوع إلى الصواب وعدم الابتداع في القراءة، فإن هذا العلم مبناه على الاتباع لا على الابتداع، وشعارُ القراء: (القراءة سنة يأخذها الآخر عن الأول).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
كتبه
علي المالكي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.