القياس النحوي بين البصريين والكوفيين
لكي يصاغ أيُّ علمٍ صياغة دقيقة لا بد له من اطراد قواعده، وأن تقوم على الاستقراء الدقيق، وأن يُكفل لها التعليل، وأن تصبح كل قاعدة أصلًا مضبوطًا تقاس عليه الجزئيات قياسا دقيقا. وكل ذلك نهض به البصريون، وبدأت طلائعُه عند عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، الذي يُعَدُّ أول نحوي بصري حقيقي، ثم حَمَلَ الرايةَ عنه تلاميذُه، ولا سيما الخليل وسيبويه. فكان البصريون بذلك أسبقَ من الكوفيين إلى دراسة النحو استقراءً وتقعيدًا وتأليفًا.
وقد امتاز منهج البصريين بابتناء قواعده على الأكثر الشائع من كلام العرب، فقد اشترطوا في الشواهد المستمد منها القياس أن تكون جارية على ألسنة العرب الفصحاء، وأن تكون كثيرة بحيث تمثل اللهجة الفصحى، وبحيث يمكن أن تُستنتج منها القاعدة المطردة، وتشددوا في الحرص على اطراد قواعد نحوِهم تشددا جعلهم يطرحون ما خالفَها وشذ عنها، ولا يعولون عليه في قليل أو كثير، وكلما اصطدموا به خطؤوه أو أولوه أو رموه بالشذوذ أو القلة أو الندرة.
وأما من حيث الاستقراء فقد اشترطوا صحة المادة التي يشتقون منها قواعدهم، ومن أجل ذلك رحلوا إلى أعماق نجد وبوادي الحجاز وتهامة يجمعون تلك المادة من ينابيعها الصافية التي لم تفسدها الحضارة، وبعبارة أخرى: رحلوا إلى القبائل المتبدية المحتفظة بملكة اللغة وسليقتها الصحيحة، وهي قبائل قيس وتميم وأسد، وهؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أُخذ ومعظمه، وعليهم اتُّكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنهم لم يأخذوا عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم.
أما الكوفيون فقد اتسعوا في رواية الأشعار وعبارات اللغة عن جميع العرب بدويهم وحضريهم، كما اعتدوا بالأشعار والأقوال الشاذة التي سمعوها على ألسنة الفصحاء، مما خرج على قواعد البصريين وأقيستهم ومما نعتوه بالخطأ والغلط.
وكان ذلك بدءًا لخلاف واسع بين المدرستين، فالبصرة تتشدد في فصاحة العربي الذي تأخذ عنه اللغة والشعر، والكوفة تتساهل، مما جعل بعض البصريين يفخر على الكوفيين بقوله: (نحن نأخذ اللغة عن حرشة أكلة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز وباعة الكواميخ). يعني بذلك أنهم يأخذون عن البدو الخلص، وهم يأخذون عن عرب المدن.
ولم تقف المسألة لدى الكوفيين عند حد الاتساع في الرواية، بل امتدت إلى الاتساع في القياس وضبط القواعد النحوية، ذلك أنهم حاولوا أن يقيسوا عليها، وقاسوا كثيرا، مما أحدث اختلاطا وتشويشا في نحوهم (في رأي كثير من الناس)؛ لما أدخلوه على القواعد الكلية العامة من قواعد فرعية قد تنقضها نقضا، مع ما يؤول إليه ذلك من خلل في القواعد، وقال بعض خصومهم: (لو سمع الكوفيون بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلًا، وبوبوا عليه)، وقالوا: (عادة الكوفيين إذا سمعوا لفظًا في شعر، أو نادر كلام جعلوه بابًا أو فصلا).
فكِلَا المذهبين مِن أصولِهما السماعُ والقياسُ، ولم يكن أحدُهما قياسيًا صِرْفًا أو سماعيًّا صِرفًا.
ولعل صنيع البصريين في هذا الجانب هو الذي جعل نحو المدرسة البصرية يظل هو المسيطر على المدارس النحوية التالية، وعلى جميع الأجيال العربية التي جاءت من بعدهم.
على أن المدرسة البصرية حين نحّت الشواذ عن قواعدها لم تحذفها ولم تسقطها، بل أثبتت جمهورَها، نافذة في كثير منها إلى تأويلها؛ حتى تنحي عن قواعدها ما قد يتبادر إلى بعض الأذهان من أن خللا يشوبها، وحتى لا يغمض الوجه الصحيح في النطق على أوساط المتعلمين، إذ قد يظنون الشاذ صحيحا مستقيما فينطقون به ويتركون المطرد في لغة العرب الفصيحة وتصاريف عباراتهم وألفاظهم. ومن هنا يتضح خطر قواعدهم بالقياس إلى ما زاده الكوفيون من قواعد استنبطوها من الشواذ النادرة، إذ إن ذلك يعرض الألسنة للبلبلة، لما يعترضها من تلك القواعد التي قد تـخنق القواعد العامة، وقد ينجذب إليها بعض من لم يفقه الفرق بين القاعدة الدائرة على كثرة الأفواه، بل على كثيرها الأكثر، والقاعدة التي لم يرد منها إلا شاهد واحد، مما قد يؤول إلى اضطراب شديد في الألسنة.
ثم إن الكوفيين لم يقفوا بقياسهم عند ما سمعوه ممن فسدت سلائقهم من أعراب المدن، أو ما شذ على ألسنة بعض أعراب البدو، فقد استخدموا القياس أحيانًا بدون استناد إلى أي سماع، كما فعلوا في قياسهم العطف بـ(لكن) في الإيجاب على العطف بـ(بل) في مثل: (قام زيد بل عمرو)، فقد طبقوا ذلك على (لكن) وأجازوا: (قام زيد لكن عمرو) بدون أي سماع عن العرب.
وفي المقابل كانوا يرفضون السماع أحيانًا، وبالتالي يرفضون ما يُبنى عليه من قواعد وأحكام، وذلك كرفضهم الاعتداد بما رواه سيبويه في «الكتاب» من إعمال أسماء المبالغة في أقوال العرب الفصحاء وأشعارهم، فقد روى قولهم في الاختيار: (أما العسلَ فأنا شرَّاب) بنصب العسل مفعولا به لشراب، كما روى طائفةً من الأشعار عملت فيها صيغُ مبالغة، وحجتهم أن هذه الأسماء فرع عن أسماء الأفعال، وأسماء الأفعال فرع عن الفعل المضارع؛ ولذلك ضعف عملها.
بل إنهم رفضوا بعض القراءات، كالقراءة التي فيها إعمالُ (إن) المخففةِ من الثقيلةِ النصبَ في نحو قوله تعالى: {وإِنْ كُلًّا لما ليوفينَّهم ربُّك أعمالهم}، حيث زعموا أن الثقيلة إنما عملت لشبهها بالفعل الماضي في بنائها على ثلاثة أحرف وأنها مبنية على الفتح مثله، فإذا خففت زال شبهها به فوجب أن يبطل عملها، ولم يلتفتوا لاحتجاج البصريين عليهم بقراءة نافع وابن كثير، وهما من القراءات السبع. فحجبهم التعليل المنطقي الخالص عن منطق اللغة وتصاريف عباراتها الفصيحة السليمة.
وليس البصريون بناجين مما وقع فيه الكوفيون، فهم أيضًا كانوا يخالفون أصولَ مذهبِهم ويخرجون عنها في بعض المسائل، إلا أن هذا الأمر في عمومه (سواء عندهم أم عند الكوفيين) ليس كثيرًا.
وقد اتجه الباحثون المحدثون إلى اعتبار المذهب البصري مذهب قياس، وعدّوا المذهب الكوفي مذهب سماع. ويميل كثير منهم إلى أن المذهب الكوفي أكثر تشعبًا وأوسع رواية، والمذهب البصري أوسع قياسًا وأضيق رواية، على أن اتساع القياس البصري المبني على العلل العقلية قد يمنع السائغ، ويضيق عن المسموع، وهذا ما دعا المتأخرين من النحاة ألا يجروا على منهاجهم أو يأخذوا أخذهم، فقد حكي عن عدد من متقدمي البصريين أنهم ردوا بعض القراءات القرآنية لخروجها عن قراءة الجمهور، وقد نزع المتأخرون إلى مخالفتهم فارتضوا القراءات جميعًا واقتاسوا بها، واتـخذوا منها موضعًا لاستقرائهم واستنباط أصولهم، شاعت لغتها أم لم تشع؛ لأن في ذلك ثراء لأساليب القول في اللغة فوق ثرائها، وإغناء لمذاهب الكلام فوق اتساعها وتشعبها واستيعابها، وآيُ القرآن (بأي قراءة قرئت) محصنة من نظر الناقد والمعترض، مرتفعة عن مقام المتعقب والمستدرك( ).
كتبه
علي المالكي
المصادر والمراجع:
«الاقتراح في أصول النحو وجدله» لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق وشرح محمود فجال، دار القلم – دمشق، ط1، 1409هـ.
«المدارس النحوية» لأحمد شوقي عبد السلام ضيف الشهير بشوقي ضيف، دار المعارف – مصر، لا ط، لا ت.
«القياس النحوي» لخالد حسن أبو عمشة، مصفوف على الحاسوب، من منشورات موقع الألوكة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.