بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذا مقال حول تحريرات الشاطبية، استفدتُه من كتابات المقرئ إيهاب فكري، وزدتُ عليها بعض الزيادات، وهاأنا أضعها بين أيديكم:
تحريرات الشاطبية
للقراء عدة تعريفات لمصطلح: (التحرير)([1])،
منها: أنه العناية بتنقيح القراءة من أي خطإ أو خلل -كالتلفيق([2])، والوهم، ونحو ذلك-.
ومنها: أنه الاجتهاد بالبحث والتحري لوضع تقييدات لما أطلقه صاحبُ كتابٍ ما مِن أوجُهٍ للقراء، وذلك وَفْقًا للطرق التي أَسْنَدَ منها القراءات. وبعضُ أصحاب هذا التعريف يختصرونه في كلمتين؛ فيقولون: هو التقييد بالتدقيق.
ومن فوائد علم التحريرات:
1- الاستعانة بها في معرفة وضبط العزو إلى الطرق والكتب، والاستفادة منها في معرفة الأحكام الواردة في الكتب.
2- الوقايةُ من الوقوع في التركيب والتلفيق في القراءة.
3- ومن فوائده بالنسبة للمتون: تفصيلُ أُجمِلَ، وتقييدُ ما أُطلِق، وتوضيحُ ما أَشْكَلَ.
وقد أَدْخَلَ بعضُ المتأخرين في تعريفِ التحريراتِ - الاستدراكَ على صاحب الكتاب، أي: إلزامه بأوجُه موجودة في أصولِ كتابِه ولكنه تركها ولم يضمنها كتابَه([3]). ولكن هذا يخالف ما هو متقرر عند القراء من جواز اقتصار القارئ على بعضِ ما رواه اختيارا منه. ولذا لا تعتبر هذه تحريرات، بل إضافات عليها لا تلزمه إلا اختيارا منه([4]).
فينبغي أن نمييز بين ما هو من باب التوضيح وبين ما هو من باب الاستدراك، وأن يتم التعامل مع كل منهما بما يليق، فالتوضيح ينسب إلى مؤلف الكتاب([5])، والاستدراك ينسب إلى مَن استدركه لا إلى مؤلف الكتاب([6]).
والواقع أنه حصل عند كثير من المتأخرين خلط وعدم تفريق بين ما هو من الاستدراك وبين ما هو من التوضيح، فحصل بسبب ذلك أخطاء علمية كثيرة وكبيرة.
تحريرات «الشاطبية» عبر القرون:
لو نظرنا إلى شروح «الشاطبية» التي كتبها تلاميذُ الشاطبي أو تلاميذُهم أو مَن بعدَهم إلى وقت ابن الجزري؛ لوجدنا أن مؤلفيها كانوا يتعاملون مع «الشاطبية» على ما هي عليه، ويكتفون بشرح وتوضيح القراءات الواردة فيها، ولا نجد في هذه الشروح من الاستدراكات في الغالب إلا استدراكات لغوية من بعض القراء والمفسرين، وكذلك لا نجد فيها في الغالب تعرُّضا لمسألة الطرق والخروج عليها؛ مراعاة لصحة الاختيار في القراءات، ولا نجد في هذه الشروح ردا للقراءات الواردة في «الشاطبية» بمثل هذا المنهج الموجود الآن، وكذلك لا نجد فيها العبارةَ التي يرددها المتأخرون كثيرا؛ والتي تقول: (هذا الوجه خروج عن طريقه؛ فلا يقرأ به)، وأيضا لا نجد من يلزم الشاطبي بأوجُهٍ من «التيسير» تَرَكَها اختيارا منه. مع أن أولئك الشراح كانوا علماء بارعين، ويعرفون ما يَقْرَءُون به.
ثم عندما جاء ابنُ الجزري مضى على منهجِ مَنْ قَبْلَه، لكنه زاد عليهم بأنه وَضَّحَ مسألةَ الطُّرُق([7])، فمثلا يقول: الحرف الفلاني من طريق «الشاطبية»، والحرف الفلاني من طريق «العنوان»، والحرف الفلاني من طريق «الغاية»، وهكذا، وكثيرا ما كان ينبه على طرق «التيسير» و«الشاطبية» والخروج عنها، والظاهر من مذهبه أن هذا إنما كان للعلم بما في طرقهم وللتنبيه على أن هذه اختيارات خرجوا بها عن طرقهم، فلا نجده يقول في موضعٍ ما في «النشر»: (هذا خروج من فلان عن طريقه فلا يقرأ به)، أقصى ما هنالك أن يقول: نبهت على هذا حتى يُعلم أنه خروج عن الطريق.
والدليل على ذلك: أنه راعى الاختيار في القراءات([8])، بل كان يقدم الاختيار على مراعاة الطريق([9])، بل كان هو نفسه يختار([10])، ولم يمنع ابنُ الجزري الخروجَ عن طرق المصنفين التي ذكروها في مقدمات كتبهم إلا في أسباب أٌخَر، كما لو كان يرى أن الحرف الفلاني لا يثبتُ عن القارئ أصلا([11]).
وفي القرنين الأوَّلَيْن بعد ابن الجزري كانت التحريرات توضيحات، فيقيدون مِن «النشر» ما في «الطيبة»، ولم يكن هناك حكمٌ بأن هذا خروج عن الطريق فيُمْنَع.
وهذا المنهج هو الذي سار عليه المنصوريُّ ومَن حذا حذوه([12])، كان هدفهم تقييد ما في «الطيبة» من «النشر»؛ حتى لا يُنسب لابن الجزري قولٌ يُفهَمُ من ظاهِرِ «الطيبة».
ثم بعد ذلك ظَهَرَ عند بعض القراء مفهومٌ جديد لم يكن معروفا عند مَن تَقَدَّمَهم، وهو أنهم فهموا أن الخروج عن الطريق يعني أن الوجه الفلاني لا يُقرأ به، وحصل بسبب هذا الفهم اضطراب كثير في الأخذ والمنع من الأوجه الواردة في «الشاطبية» بدعوى الخروج عن الطريق، مع عدم مراعاة اختيار الشاطبي. في البداية كانوا يمنعون أحرفا قليلة، ثم تطور الأمر إلى أن مُنِعَت مئاتُ الأوجه التي كانت مقبولةً ومأخوذًا بها عند المتقدمين([13]). ومع ذلك لم يلتزم أولئك القراء بهذا المنهج، ولم يسيروا على قاعدة واحدة، بل حصل عندهم تناقض واضطراب في مناهجهم ومذاهبهم، فمثلا: في تحريراتهم على «الشاطبية» تارة يمنعون أوجُهًا بحجة أنها خروج من الشاطبي عن طريقه([14])، وتارة يقبلون أوجهًا خرج فيها الشاطبي عن طريقه ويقولون: (هذا من زيادات القصيد، ويُقرأ به)([15])، بل إنهم أحيانا يلزمونه بأحرف ليست من طريقه أصلا، وبعضُها قد نبَّه على أنه تَرَكَها([16])، وهذا تناقض واضح!
وإن من أسباب وقوعهم فيما سبق: عدم التأمل في مسـألة الاختيار عند القراء([17])، وعدم مراعاتها. فالقارئ قد يقرأ على عدة مشايخ، ثم يؤلف مؤلفًا ويسنده من طريق معينة، فيدع أشياء من طريقِ كتابِه اختيارا فلا يضمنها إياه، ويضيف إلى الكتاب أشياء من مروياته الأخرى التي يرويها من غير الطريق الذي أَسْنَدَه منها. وهذا الأمر كان مقررا عند السلف بشروطه المعروفة([18])، وإليك بعض الأمثلة التي تدل على ذلك:
1- خلفٌ البزار مع أنه يسند اختيارَه من طريق حمزة إلا أنه خالفه في أشياء اختارها من مروياته الأخرى، وترك أكثرَ الأحرف التي انتُقدت على حمزة([19])، ولم يخرج عن قراءة أهل الكوفة فيما عدا السكت بين السورتين من رواية إسحاق الوراق عنه.
2- أبو عمرو قرأ على ابن كثير، وهو يخالفه في أكثر من ثلاثة آلاف حرف أخذها من قراءته على غير ابن كثير.
3- الكسائي اعتماده في الأصل على قراءة حمزة، وخالف حمزةَ في نحو ثلاث مئة حرف اختارها من قراءته على شيوخه الآخرين.
4- نافع قال: قرأتُ على سبعين من التابعين، فما اجتمع عليه اثنان أخذتُه، وما شذ فيه واحدٌ تركتُه، حتى ألّفتُ هذه القراءة. اهـ. فهذا نص صريح منه على أنه اختار.
5- ورش روايته عن نافع بإسكان الياء في {محياي}، واختار لنفسه فتحَ الياء.
6- حفص بن سليمان روايته عن عاصم بفتح الضاد في {ضعف} و{ضعفا} بسورة الروم، واختار لنفسه وجه الضم من قراءته على غير عاصم.
7- ابن مجاهد اختار وجه الفتح في {الناس} لِدُوريِّ أبي عمرو، مع أنه لم يقرأ من طريق اليزيدي إلا بالإمالة.
إلى غير ذلك من الأمثلة.
وكل هذه الاختيارات قَبِلَهَا المسلمون، ولم يطعن أحد فيما اختاروه بحجة أنها خروج عن الطرق، ولم يلزمهم أحد بالأخذ بما تركوه، وهذا من أوضح الأدلة، فمن رد هذا يلزمه رد عمل المسلمين طيلة هذه القرون.
إذا تقرر ذلك؛ فلماذا نقبل اختيارات هؤلاء ونرفض اختيار الشاطبي أو الداني أو ابن الجزري أو غيرهما من أئمة القراءة؟
وإنّ ما وصل إليه حالُ كثير من المحررين المتأخرين من الاضطراب والتوسع والخطإ - جعل كثيرا من القراء يسلكون عدة مسالك حيال ذلك، ويقترحون عدة حلول، فمن ذلك:
1- التغافل، وذلك بترك كل واحد يقرأ بما يريد من التحريرات، المهم ألا يقرأ إلا يتحريرات.
وهذا المسلك هو ما يطبَّق عمليا في أكثر الأحيان، حيث لا يَعترض أحدٌ على من يقرأُ بتحريراتٍ لم يقرأ هو بها.
ولكن هذا الحل إنما يصلح مع المقلدين الذين يلتزمون بما قرءوا به ولا يطلبون دليلا عليه، ولا يرجحون بين تحريراتهم وتحريرات غيرهم. ولا يصلح للقراء المجتهدين الذين يبحثون عن الدليل، وكذلك الذين قرءوا بتحريرات مختلفة ويحتاجون أن يرجحوا بينها، فهم لا يرضون إلا بالبحث عن حل لهذا الخلاف. أيضا هذا الحل لا تقبله المعاهد والكليات العلمية، فإن البحث العلمي هو مرتكزها، ولا ينبغي أن يقبلوا أقوالًا لا دليل عليها، لأن المفترض في هذه المراكز أن تكون مراكز اجتهاد لا تقليد.
2- الاطِّراح، أي اطراح كل التحريرات رأسًا، وإلغاؤها، والاقتصار على القراءة بظواهر «الشاطبية» و«الدرة» و«الطيبة» المعتمدة.
وهذا الحل خرج به عبد الفتاح القاضي ونادى به هو وبعض علماء القراءات بالأزهر؛ بسبب ما رأوا من كثرة التحريرات، وتعددها، واختلافها، والاضطراب الواقع في كثير منها. وقد تغلَّب هذا الرأي على غيره فاعتُمَد في معاهد القراءات بالأزهر، وعليه أغلب معاهد وكليات تعليم القراءات في العالم الإسلامي.
ولكن هذا الحل يؤخذ عليه أنه لا يناسب أهل العلم والاجتهاد والتحقيق الذين لا يقبلون أن يأخذوا بما منعه الشاطبي والداني وابن الجزري ثم ينسبوا ذلك إليهم. فهذا الحل فيه خطأ علمي؛ لأنه يترتب عليه القراءة بأوجه ثبت عنهم منعُها بيقين، فكيف يُقرأ من طرقهم بغير اختياراتهم؟!
وهذا الحل لم يلق قبولا عند الأكثر، فما زالوا يقرئون بالتحريرات، وبعضهم يُلزم بها طلابه، وأيضا بدأت بعض الكليات القرآنية بالعودة إلى الأخذ بالتحريرات وفق منهج واضح.
3- الترجيح بين التحريرات المختلفة. وهذا الحل يقرره أتباع مدرسة الأزميري، ويرون أنها أدق وأفضل التحريرات. هكذا يقولون.
ولكن هذا المسلك لم يكن حلا صوابا أيضا؛ لأنه يؤدي في النهاية إلى منع أوجه كثيرة جدا سيتضح في زماننا وبعد زماننا أن الصواب الإتيان بها.
4- ضبط الرواية ونسبة كل رواية وكل تحرير وكل اختيار لصاحبه، وأن تراعى الأصول التي درج عليها القراء.
فما في «الشاطبية» -مثلا- هو الذي يلزم الشاطبي، فإذا استدرك عليها عالم فإننا نبين أن ذلك استدراك له، ولا نعزوه للشاطبي أو نقول أن هذه تحريرات «الشاطبية».
فالحل هو القراءة بظاهر الكتب حتى يحصل اليقين بترك هذا الظاهر. ولا نقيد ما في ظاهر الكتب إلا باليقين، كنص المؤلف على ذلك صراحةً في موطن آخر([20])، أو حكاية طلابه ذلك عنه([21])، أو أن يمنع عالم وجها معينا وأسناده يمر به([22])، ونحو ذلك. وأما الظنون فلا تقدح في الأخذ بظاهر كلام المؤلف.
هذا ما يسر الله كتابته في هذا الموضوع المهم. وأسأل الله أن أكون قد وفقتُ فيما كتبت.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
علي المالكي
_________________________________
([1]) جمعها خالد أبو الجود في مقدمة رسالته للماجستير والتي حقق فيها كتاب: «الروض النضير» للمتولي، فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليها هناك.
([2]) ذكر إيهاب فكري أن مصطلح: (التلفيق) يشمل أن تنسب إلى القارئ ما ليس من طريقه، ويشمل كذلك القراءةَ بحرف لم تقرأ به.
([3]) مثلما فعل كثير من المتأخرين مِن إلزام الشاطبي بالأخذ بأوجهٍ من «التيسير» كان قد تَرَكَ الأخذَ بها اختيارًا وقصدًا، فألزموه هم بها بحجة أنها موجودة في «التيسير» الذي هو أصل «الشاطبية»!
([4]) فإن سئل: ما حكم القراءة بهذه التحريرات التي يزيدها هؤلاء المحررون من باب الاختيار والظن؟
فالجواب: أنها إذا كانت تحريرات معتبرة فيمكن القراءة بها على أنها اختيار من أصحابها، فيُقرأ بها مع نسبتها إلى أصحابها لا إلى صاحب المتن.
[5]) مثال ذلك: أن نجد في «طيبة النشر» عبارةً ظاهرُها جوازُ وجهٍ ما، ثم عندما نبحث في «النشر» نجد أن ابن الجزري يمنع هذا الوجه؛ فنقيُّدُ ظاهرَ كلامِه في «الطيبة» بكلامه الذي في «النشر»؛ فنمنع ذلك الوجه من طريقه، وننسب هذا المنعَ إليه.
([6]) وبناء على هذا قال بعض العلماء: إنَّ تحريرات الأزميري والمتولي ومن سار على نهجهما إنما هي في الحقيقة مستدركات واختيارات لهم.
([7]) وهذه المسألة مهمة لطالب القراءات، فلا بد أن يدرس مسألة الطرق ويدرس مسألة الاختيار؛ لأنهما بالنسبة إليه كالجناحين بالنسبة للطائر؛ لأنه إن لم يضبطهما حصل عنده خلل.
([8]) وإليك بعض الأمثلة على ذلك فيما يتعلق بالشاطبي:
1- لم يَرُدَّ اختيارَ الشاطبيِّ عدمَ النقل وقفًا في نحو: {من أجر} لحمزة، مع أن هذا الوقف لم يجوزه الداني ولا أبو الفتح.
2- قال في حرف {يعذب من} بسورة البقرة: «وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِدْغَامُ لِابْنِ كَثِيرٍ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَطْلَقَ الْخِلَافَ فِي «التَّيْسِيرِ» لَهُ؛ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَمَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ مِمَّا خَرَجَ فِيهِ عَنْ طُرُقِهِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الشَّاطِبِيُّ، وَالْوَجْهَانِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ صَحِيحَانِ» اهـ. فأنت ترى أنه مشّى الإدغام من طريقيهما ولم يقل: إنه خروج عن الطريق فلا يُقرأ به.
3-في{محياي} بسورة الأنعام قال: «والوجهان صحيحان عن وَرْشٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَزْرَقِ، إِلَّا أَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ نَافِعٍ بِالْإِسْكَانِ، وَاخْتِيَارَهُ لِنَفْسِهِ الْفَتْحُ -كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ-». فأثبتَ الخلاف عن ورش وهو يجزم في الموضع نفسه أن الفتح اختيار له خرج به عن طريقه.
بل إنه في {هئت لك} ذكر قال: «...وَلِذَلِكَ جَمَعَ الشَّاطِبِيُّ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ [أي فتح وضم التاء مع الهمز] عَنْ هِشَامٍ فِي قَصِيدَتِهِ فَخَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ كِتَابِهِ [وهو الفتح] لِتَحَرِّي الصَّوَابِ». فأنت ترى أن ابن الجزري لم يمنع هنا أيضا الخروج عن الطريق اختيارا.
([9]) مثال ذلك: أن التحقيق أن يُقرأ للسوسي من «التيسير» بالسكت بين السورتين، مع أن طريقه الوصل. فقدم الاختيار على مراعاة الطريق. وكذلك فعل في رواية ابن ذكوان؛ فأخبر أن التحقيق أن يُقرأ له من «التيسير» بالسكت بين السورتين، مع أن طريقه البسملة؛ تقديما للاختيار على مراعاة الطريق.
([10]) مثال ذلك: أنه في إسكان {يرضه} لهشام بعدما ذكر الخلاف فيه: «وَقَدْ تَتَبَّعْتُ رِوَايَةَ الْإِسْكَانِ عَنْ هِشَامٍ فَلَمْ أَجِدْهَا فِي غَيْرِ مَا ذَكَرْتُ سِوَى...» فذكر عدة طرق ثم قال: «وَلَيْسَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ طُرُقِنَا، وَفِي ثُبُوتِهِ عَنِ الدَّاجُونِيِّ عِنْدِي نَظَرٌ، وَلَوْلَا شُهْرَتُهُ عَنْ هِشَامٍ وَصِحَّتُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ نَذْكُرْهُ». فأنت ترى أنه مع أن هذا الحرف ليس من طرقه اختاره؛ فقال في الطيبة: «...والخلفُ لا»، يعني أن السكت عن هشامٍ بخلاف. وأقرأَ بهذا الحرف، وقرئ به من وقته إلى وقتنا هذا.
([11]) كما منع إدغام {وجبت جنوبها} لابن ذكوان من طريق «الشاطبية» لأنه يرى أن هذا الحرف لا يثبت عن ابن ذكوان أصلا.
([12]) ولا يزال أتباع المدرسة موجودين إلى الآن، وإن كان أتباع مدرسة الأزميري والمتولي هم الأكثر، ولا سيما في مصر والشام.
([13]) حتى وصل الحالُ ببعضهم إلى أن شذَّ عن الجميع وقال بإلغاء كل ما زاده الشاطبي على ما في «التيسير»، والاقتصارِ على ما جاء في «التيسير» فقط! وقد سمعتُ قريبًا مِن هذا الكلام بأذُني مِن أحد مشايخ القراءة المصريين المشهورين في مكالمة هاتفية بيني وبينه؛ حيث قال لي: خذ من الشاطبية ما وافق فيه التيسير، وأما مازاده الشاطبي على ما في التيسير فلا علاقة لنا به. اهـ.
يالله العجب! أفهؤلاء أعلمُ مِن كُلِّ العلماء الذين تَلَقَّوْا هذه القصيدة بالقبول وقرءوا بها وأقرءوا طيلة هذه القرون المتعددة؟!
([14]) وأمثلة هذا كثيرة جدا، منها: منع وجه الإسكان في ميم الجمع لقالون، ومنع وجه الإدغام لابن كثير في {ويعذب من يشاء} بسورة البقرة، ومنع قراءة {يبصط} و{بصطة} بالسين لخلاد.
([15]) من ذلك: فتح ذوات الياء لورش، وقصر البدل له أيضا، والتوسط لقالون، والقصر للدروي.
والأكثر من ذلك أنهم لم يمنعوا اختيارَ الشاطبي وجهَ النقلِ وقفًا لحمزة في نحو: {مِن أجر} مع أن الداني وشيخه أبا الفتح يمنعانه! وكذلك لم يمنعوا مد البدل لورش مع أن الداني له مؤلفات في منع مد البدل! فأنت ترى أنهم يختارون هذا بينما لم يمنعوا أشياء أخرى دون ذلك!
([16]) كما فعلوا في كلمة: {أئمة}؛ حيث زادوا وجه الإبدال على طريق «الشاطبية» بحجة أنه صح من طريق «الطيبة» فيُقرأُ به! مع أن الشاطبي نبه على أنه تركه.
([17]) للتوسع في هذا الموضوع يُرجع إلى كتاب: «الاختيار عند القراء .. مفهومُه، مراحلُه، وأثرُه في القراءات»، وهو رسالة علمية تقدم بها أمين بن إدريس بن عبد الرحمن فلاته لنيل درجة الماجستير من كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
([18]) ومنها:
– أن يكون المختار ممن توفرت فيه أهلية الاختيار.
– أن يكون الوجه المختار مما اجتمعت فيه شروط القبول.
– أن يكون القارئ قد قرأ به أو سمعه في الجملة.
– أن لا يؤدي إلى الوقوعِ في محذور نحوي أو لغوي.
– أن ينسبه المختارُ لنفسه، لا إلى شيوخه، ولا إلى صاحب الكتاب الذي يقرأ من طريقه، وإلا عُد ذلك تلفيقا.
([19]) ومن باب المناسبة والفائدة أورد هذه النقول ردا على من يطعن في قراءة حمزة:
قال الإمام الذهبي في «ميزان الاعتدال»: «قد انعقد الإجماع بأخرة على تلقِّي قراءةِ حمزةَ بالقبول،, والإنكارِ على من تكلم فيها، ...[و] يكفى حمزةَ شهادةُ مِثْلِ الإمام سفيان الثوري له؛ فإنه قال: ما قرأ حمزةُ حرفًا إلا بأثرٍ» اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى»: «وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ عَنْ السَّلَفِ الْمُوَافِقَةُ لِلْمُصْحَفِ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلْفٍ، وَبَيْنَ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو وَنُعَيْم. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا: إنَّ الْقِرَاءَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ [وأن] مَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ...» اهـ.
وقد كتب العلماء في هذه المسألة عدة كتابات، استقلالا وضمنا، فليُرجع إليها للوقوف على تفصيل الكلام.
([20]) مثلما منع ابن الجزري السكت لحفص على القصر.
([21]) مثلما حكى السخاوي عن الشاطبي أنه كان لا يختار في المد مرتَبَتَيْ فويق القصر وفويق التوسط. فلهذا لا يُقرأ بهما من طريقه؛ لأنه لم يخترهما، وهل يؤخذ من طريقه بغير اختياره؟!
([22]) مثلا: بعض زيادات القصيد لم يصححها ابن الجزري، ولم يقرئ بها؛ فحيث إننا نقرأ بمضمن «الشاطبية» من طريق ابن الجزري فلا نقرأ بها؛ لعدم اتصال سندها حينئذ. وللوقوف على هذه الزيادات ارجع -على سبيل المثال- إلى «إنصاف الإمام الشاطبي»، فقد عقد لها فصلا خاصا.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذا مقال حول تحريرات الشاطبية، استفدتُه من كتابات المقرئ إيهاب فكري، وزدتُ عليها بعض الزيادات، وهاأنا أضعها بين أيديكم:
تحريرات الشاطبية
للقراء عدة تعريفات لمصطلح: (التحرير)([1])،
منها: أنه العناية بتنقيح القراءة من أي خطإ أو خلل -كالتلفيق([2])، والوهم، ونحو ذلك-.
ومنها: أنه الاجتهاد بالبحث والتحري لوضع تقييدات لما أطلقه صاحبُ كتابٍ ما مِن أوجُهٍ للقراء، وذلك وَفْقًا للطرق التي أَسْنَدَ منها القراءات. وبعضُ أصحاب هذا التعريف يختصرونه في كلمتين؛ فيقولون: هو التقييد بالتدقيق.
ومن فوائد علم التحريرات:
1- الاستعانة بها في معرفة وضبط العزو إلى الطرق والكتب، والاستفادة منها في معرفة الأحكام الواردة في الكتب.
2- الوقايةُ من الوقوع في التركيب والتلفيق في القراءة.
3- ومن فوائده بالنسبة للمتون: تفصيلُ أُجمِلَ، وتقييدُ ما أُطلِق، وتوضيحُ ما أَشْكَلَ.
وقد أَدْخَلَ بعضُ المتأخرين في تعريفِ التحريراتِ - الاستدراكَ على صاحب الكتاب، أي: إلزامه بأوجُه موجودة في أصولِ كتابِه ولكنه تركها ولم يضمنها كتابَه([3]). ولكن هذا يخالف ما هو متقرر عند القراء من جواز اقتصار القارئ على بعضِ ما رواه اختيارا منه. ولذا لا تعتبر هذه تحريرات، بل إضافات عليها لا تلزمه إلا اختيارا منه([4]).
فينبغي أن نمييز بين ما هو من باب التوضيح وبين ما هو من باب الاستدراك، وأن يتم التعامل مع كل منهما بما يليق، فالتوضيح ينسب إلى مؤلف الكتاب([5])، والاستدراك ينسب إلى مَن استدركه لا إلى مؤلف الكتاب([6]).
والواقع أنه حصل عند كثير من المتأخرين خلط وعدم تفريق بين ما هو من الاستدراك وبين ما هو من التوضيح، فحصل بسبب ذلك أخطاء علمية كثيرة وكبيرة.
تحريرات «الشاطبية» عبر القرون:
لو نظرنا إلى شروح «الشاطبية» التي كتبها تلاميذُ الشاطبي أو تلاميذُهم أو مَن بعدَهم إلى وقت ابن الجزري؛ لوجدنا أن مؤلفيها كانوا يتعاملون مع «الشاطبية» على ما هي عليه، ويكتفون بشرح وتوضيح القراءات الواردة فيها، ولا نجد في هذه الشروح من الاستدراكات في الغالب إلا استدراكات لغوية من بعض القراء والمفسرين، وكذلك لا نجد فيها في الغالب تعرُّضا لمسألة الطرق والخروج عليها؛ مراعاة لصحة الاختيار في القراءات، ولا نجد في هذه الشروح ردا للقراءات الواردة في «الشاطبية» بمثل هذا المنهج الموجود الآن، وكذلك لا نجد فيها العبارةَ التي يرددها المتأخرون كثيرا؛ والتي تقول: (هذا الوجه خروج عن طريقه؛ فلا يقرأ به)، وأيضا لا نجد من يلزم الشاطبي بأوجُهٍ من «التيسير» تَرَكَها اختيارا منه. مع أن أولئك الشراح كانوا علماء بارعين، ويعرفون ما يَقْرَءُون به.
ثم عندما جاء ابنُ الجزري مضى على منهجِ مَنْ قَبْلَه، لكنه زاد عليهم بأنه وَضَّحَ مسألةَ الطُّرُق([7])، فمثلا يقول: الحرف الفلاني من طريق «الشاطبية»، والحرف الفلاني من طريق «العنوان»، والحرف الفلاني من طريق «الغاية»، وهكذا، وكثيرا ما كان ينبه على طرق «التيسير» و«الشاطبية» والخروج عنها، والظاهر من مذهبه أن هذا إنما كان للعلم بما في طرقهم وللتنبيه على أن هذه اختيارات خرجوا بها عن طرقهم، فلا نجده يقول في موضعٍ ما في «النشر»: (هذا خروج من فلان عن طريقه فلا يقرأ به)، أقصى ما هنالك أن يقول: نبهت على هذا حتى يُعلم أنه خروج عن الطريق.
والدليل على ذلك: أنه راعى الاختيار في القراءات([8])، بل كان يقدم الاختيار على مراعاة الطريق([9])، بل كان هو نفسه يختار([10])، ولم يمنع ابنُ الجزري الخروجَ عن طرق المصنفين التي ذكروها في مقدمات كتبهم إلا في أسباب أٌخَر، كما لو كان يرى أن الحرف الفلاني لا يثبتُ عن القارئ أصلا([11]).
وفي القرنين الأوَّلَيْن بعد ابن الجزري كانت التحريرات توضيحات، فيقيدون مِن «النشر» ما في «الطيبة»، ولم يكن هناك حكمٌ بأن هذا خروج عن الطريق فيُمْنَع.
وهذا المنهج هو الذي سار عليه المنصوريُّ ومَن حذا حذوه([12])، كان هدفهم تقييد ما في «الطيبة» من «النشر»؛ حتى لا يُنسب لابن الجزري قولٌ يُفهَمُ من ظاهِرِ «الطيبة».
ثم بعد ذلك ظَهَرَ عند بعض القراء مفهومٌ جديد لم يكن معروفا عند مَن تَقَدَّمَهم، وهو أنهم فهموا أن الخروج عن الطريق يعني أن الوجه الفلاني لا يُقرأ به، وحصل بسبب هذا الفهم اضطراب كثير في الأخذ والمنع من الأوجه الواردة في «الشاطبية» بدعوى الخروج عن الطريق، مع عدم مراعاة اختيار الشاطبي. في البداية كانوا يمنعون أحرفا قليلة، ثم تطور الأمر إلى أن مُنِعَت مئاتُ الأوجه التي كانت مقبولةً ومأخوذًا بها عند المتقدمين([13]). ومع ذلك لم يلتزم أولئك القراء بهذا المنهج، ولم يسيروا على قاعدة واحدة، بل حصل عندهم تناقض واضطراب في مناهجهم ومذاهبهم، فمثلا: في تحريراتهم على «الشاطبية» تارة يمنعون أوجُهًا بحجة أنها خروج من الشاطبي عن طريقه([14])، وتارة يقبلون أوجهًا خرج فيها الشاطبي عن طريقه ويقولون: (هذا من زيادات القصيد، ويُقرأ به)([15])، بل إنهم أحيانا يلزمونه بأحرف ليست من طريقه أصلا، وبعضُها قد نبَّه على أنه تَرَكَها([16])، وهذا تناقض واضح!
وإن من أسباب وقوعهم فيما سبق: عدم التأمل في مسـألة الاختيار عند القراء([17])، وعدم مراعاتها. فالقارئ قد يقرأ على عدة مشايخ، ثم يؤلف مؤلفًا ويسنده من طريق معينة، فيدع أشياء من طريقِ كتابِه اختيارا فلا يضمنها إياه، ويضيف إلى الكتاب أشياء من مروياته الأخرى التي يرويها من غير الطريق الذي أَسْنَدَه منها. وهذا الأمر كان مقررا عند السلف بشروطه المعروفة([18])، وإليك بعض الأمثلة التي تدل على ذلك:
1- خلفٌ البزار مع أنه يسند اختيارَه من طريق حمزة إلا أنه خالفه في أشياء اختارها من مروياته الأخرى، وترك أكثرَ الأحرف التي انتُقدت على حمزة([19])، ولم يخرج عن قراءة أهل الكوفة فيما عدا السكت بين السورتين من رواية إسحاق الوراق عنه.
2- أبو عمرو قرأ على ابن كثير، وهو يخالفه في أكثر من ثلاثة آلاف حرف أخذها من قراءته على غير ابن كثير.
3- الكسائي اعتماده في الأصل على قراءة حمزة، وخالف حمزةَ في نحو ثلاث مئة حرف اختارها من قراءته على شيوخه الآخرين.
4- نافع قال: قرأتُ على سبعين من التابعين، فما اجتمع عليه اثنان أخذتُه، وما شذ فيه واحدٌ تركتُه، حتى ألّفتُ هذه القراءة. اهـ. فهذا نص صريح منه على أنه اختار.
5- ورش روايته عن نافع بإسكان الياء في {محياي}، واختار لنفسه فتحَ الياء.
6- حفص بن سليمان روايته عن عاصم بفتح الضاد في {ضعف} و{ضعفا} بسورة الروم، واختار لنفسه وجه الضم من قراءته على غير عاصم.
7- ابن مجاهد اختار وجه الفتح في {الناس} لِدُوريِّ أبي عمرو، مع أنه لم يقرأ من طريق اليزيدي إلا بالإمالة.
إلى غير ذلك من الأمثلة.
وكل هذه الاختيارات قَبِلَهَا المسلمون، ولم يطعن أحد فيما اختاروه بحجة أنها خروج عن الطرق، ولم يلزمهم أحد بالأخذ بما تركوه، وهذا من أوضح الأدلة، فمن رد هذا يلزمه رد عمل المسلمين طيلة هذه القرون.
إذا تقرر ذلك؛ فلماذا نقبل اختيارات هؤلاء ونرفض اختيار الشاطبي أو الداني أو ابن الجزري أو غيرهما من أئمة القراءة؟
وإنّ ما وصل إليه حالُ كثير من المحررين المتأخرين من الاضطراب والتوسع والخطإ - جعل كثيرا من القراء يسلكون عدة مسالك حيال ذلك، ويقترحون عدة حلول، فمن ذلك:
1- التغافل، وذلك بترك كل واحد يقرأ بما يريد من التحريرات، المهم ألا يقرأ إلا يتحريرات.
وهذا المسلك هو ما يطبَّق عمليا في أكثر الأحيان، حيث لا يَعترض أحدٌ على من يقرأُ بتحريراتٍ لم يقرأ هو بها.
ولكن هذا الحل إنما يصلح مع المقلدين الذين يلتزمون بما قرءوا به ولا يطلبون دليلا عليه، ولا يرجحون بين تحريراتهم وتحريرات غيرهم. ولا يصلح للقراء المجتهدين الذين يبحثون عن الدليل، وكذلك الذين قرءوا بتحريرات مختلفة ويحتاجون أن يرجحوا بينها، فهم لا يرضون إلا بالبحث عن حل لهذا الخلاف. أيضا هذا الحل لا تقبله المعاهد والكليات العلمية، فإن البحث العلمي هو مرتكزها، ولا ينبغي أن يقبلوا أقوالًا لا دليل عليها، لأن المفترض في هذه المراكز أن تكون مراكز اجتهاد لا تقليد.
2- الاطِّراح، أي اطراح كل التحريرات رأسًا، وإلغاؤها، والاقتصار على القراءة بظواهر «الشاطبية» و«الدرة» و«الطيبة» المعتمدة.
وهذا الحل خرج به عبد الفتاح القاضي ونادى به هو وبعض علماء القراءات بالأزهر؛ بسبب ما رأوا من كثرة التحريرات، وتعددها، واختلافها، والاضطراب الواقع في كثير منها. وقد تغلَّب هذا الرأي على غيره فاعتُمَد في معاهد القراءات بالأزهر، وعليه أغلب معاهد وكليات تعليم القراءات في العالم الإسلامي.
ولكن هذا الحل يؤخذ عليه أنه لا يناسب أهل العلم والاجتهاد والتحقيق الذين لا يقبلون أن يأخذوا بما منعه الشاطبي والداني وابن الجزري ثم ينسبوا ذلك إليهم. فهذا الحل فيه خطأ علمي؛ لأنه يترتب عليه القراءة بأوجه ثبت عنهم منعُها بيقين، فكيف يُقرأ من طرقهم بغير اختياراتهم؟!
وهذا الحل لم يلق قبولا عند الأكثر، فما زالوا يقرئون بالتحريرات، وبعضهم يُلزم بها طلابه، وأيضا بدأت بعض الكليات القرآنية بالعودة إلى الأخذ بالتحريرات وفق منهج واضح.
3- الترجيح بين التحريرات المختلفة. وهذا الحل يقرره أتباع مدرسة الأزميري، ويرون أنها أدق وأفضل التحريرات. هكذا يقولون.
ولكن هذا المسلك لم يكن حلا صوابا أيضا؛ لأنه يؤدي في النهاية إلى منع أوجه كثيرة جدا سيتضح في زماننا وبعد زماننا أن الصواب الإتيان بها.
4- ضبط الرواية ونسبة كل رواية وكل تحرير وكل اختيار لصاحبه، وأن تراعى الأصول التي درج عليها القراء.
فما في «الشاطبية» -مثلا- هو الذي يلزم الشاطبي، فإذا استدرك عليها عالم فإننا نبين أن ذلك استدراك له، ولا نعزوه للشاطبي أو نقول أن هذه تحريرات «الشاطبية».
فالحل هو القراءة بظاهر الكتب حتى يحصل اليقين بترك هذا الظاهر. ولا نقيد ما في ظاهر الكتب إلا باليقين، كنص المؤلف على ذلك صراحةً في موطن آخر([20])، أو حكاية طلابه ذلك عنه([21])، أو أن يمنع عالم وجها معينا وأسناده يمر به([22])، ونحو ذلك. وأما الظنون فلا تقدح في الأخذ بظاهر كلام المؤلف.
هذا ما يسر الله كتابته في هذا الموضوع المهم. وأسأل الله أن أكون قد وفقتُ فيما كتبت.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
علي المالكي
_________________________________
([1]) جمعها خالد أبو الجود في مقدمة رسالته للماجستير والتي حقق فيها كتاب: «الروض النضير» للمتولي، فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إليها هناك.
([2]) ذكر إيهاب فكري أن مصطلح: (التلفيق) يشمل أن تنسب إلى القارئ ما ليس من طريقه، ويشمل كذلك القراءةَ بحرف لم تقرأ به.
([3]) مثلما فعل كثير من المتأخرين مِن إلزام الشاطبي بالأخذ بأوجهٍ من «التيسير» كان قد تَرَكَ الأخذَ بها اختيارًا وقصدًا، فألزموه هم بها بحجة أنها موجودة في «التيسير» الذي هو أصل «الشاطبية»!
([4]) فإن سئل: ما حكم القراءة بهذه التحريرات التي يزيدها هؤلاء المحررون من باب الاختيار والظن؟
فالجواب: أنها إذا كانت تحريرات معتبرة فيمكن القراءة بها على أنها اختيار من أصحابها، فيُقرأ بها مع نسبتها إلى أصحابها لا إلى صاحب المتن.
[5]) مثال ذلك: أن نجد في «طيبة النشر» عبارةً ظاهرُها جوازُ وجهٍ ما، ثم عندما نبحث في «النشر» نجد أن ابن الجزري يمنع هذا الوجه؛ فنقيُّدُ ظاهرَ كلامِه في «الطيبة» بكلامه الذي في «النشر»؛ فنمنع ذلك الوجه من طريقه، وننسب هذا المنعَ إليه.
([6]) وبناء على هذا قال بعض العلماء: إنَّ تحريرات الأزميري والمتولي ومن سار على نهجهما إنما هي في الحقيقة مستدركات واختيارات لهم.
([7]) وهذه المسألة مهمة لطالب القراءات، فلا بد أن يدرس مسألة الطرق ويدرس مسألة الاختيار؛ لأنهما بالنسبة إليه كالجناحين بالنسبة للطائر؛ لأنه إن لم يضبطهما حصل عنده خلل.
([8]) وإليك بعض الأمثلة على ذلك فيما يتعلق بالشاطبي:
1- لم يَرُدَّ اختيارَ الشاطبيِّ عدمَ النقل وقفًا في نحو: {من أجر} لحمزة، مع أن هذا الوقف لم يجوزه الداني ولا أبو الفتح.
2- قال في حرف {يعذب من} بسورة البقرة: «وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِدْغَامُ لِابْنِ كَثِيرٍ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَطْلَقَ الْخِلَافَ فِي «التَّيْسِيرِ» لَهُ؛ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَمَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ مِمَّا خَرَجَ فِيهِ عَنْ طُرُقِهِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الشَّاطِبِيُّ، وَالْوَجْهَانِ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ صَحِيحَانِ» اهـ. فأنت ترى أنه مشّى الإدغام من طريقيهما ولم يقل: إنه خروج عن الطريق فلا يُقرأ به.
3-في{محياي} بسورة الأنعام قال: «والوجهان صحيحان عن وَرْشٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَزْرَقِ، إِلَّا أَنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ نَافِعٍ بِالْإِسْكَانِ، وَاخْتِيَارَهُ لِنَفْسِهِ الْفَتْحُ -كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ-». فأثبتَ الخلاف عن ورش وهو يجزم في الموضع نفسه أن الفتح اختيار له خرج به عن طريقه.
بل إنه في {هئت لك} ذكر قال: «...وَلِذَلِكَ جَمَعَ الشَّاطِبِيُّ بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ [أي فتح وضم التاء مع الهمز] عَنْ هِشَامٍ فِي قَصِيدَتِهِ فَخَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ كِتَابِهِ [وهو الفتح] لِتَحَرِّي الصَّوَابِ». فأنت ترى أن ابن الجزري لم يمنع هنا أيضا الخروج عن الطريق اختيارا.
([9]) مثال ذلك: أن التحقيق أن يُقرأ للسوسي من «التيسير» بالسكت بين السورتين، مع أن طريقه الوصل. فقدم الاختيار على مراعاة الطريق. وكذلك فعل في رواية ابن ذكوان؛ فأخبر أن التحقيق أن يُقرأ له من «التيسير» بالسكت بين السورتين، مع أن طريقه البسملة؛ تقديما للاختيار على مراعاة الطريق.
([10]) مثال ذلك: أنه في إسكان {يرضه} لهشام بعدما ذكر الخلاف فيه: «وَقَدْ تَتَبَّعْتُ رِوَايَةَ الْإِسْكَانِ عَنْ هِشَامٍ فَلَمْ أَجِدْهَا فِي غَيْرِ مَا ذَكَرْتُ سِوَى...» فذكر عدة طرق ثم قال: «وَلَيْسَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ طُرُقِنَا، وَفِي ثُبُوتِهِ عَنِ الدَّاجُونِيِّ عِنْدِي نَظَرٌ، وَلَوْلَا شُهْرَتُهُ عَنْ هِشَامٍ وَصِحَّتُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ نَذْكُرْهُ». فأنت ترى أنه مع أن هذا الحرف ليس من طرقه اختاره؛ فقال في الطيبة: «...والخلفُ لا»، يعني أن السكت عن هشامٍ بخلاف. وأقرأَ بهذا الحرف، وقرئ به من وقته إلى وقتنا هذا.
([11]) كما منع إدغام {وجبت جنوبها} لابن ذكوان من طريق «الشاطبية» لأنه يرى أن هذا الحرف لا يثبت عن ابن ذكوان أصلا.
([12]) ولا يزال أتباع المدرسة موجودين إلى الآن، وإن كان أتباع مدرسة الأزميري والمتولي هم الأكثر، ولا سيما في مصر والشام.
([13]) حتى وصل الحالُ ببعضهم إلى أن شذَّ عن الجميع وقال بإلغاء كل ما زاده الشاطبي على ما في «التيسير»، والاقتصارِ على ما جاء في «التيسير» فقط! وقد سمعتُ قريبًا مِن هذا الكلام بأذُني مِن أحد مشايخ القراءة المصريين المشهورين في مكالمة هاتفية بيني وبينه؛ حيث قال لي: خذ من الشاطبية ما وافق فيه التيسير، وأما مازاده الشاطبي على ما في التيسير فلا علاقة لنا به. اهـ.
يالله العجب! أفهؤلاء أعلمُ مِن كُلِّ العلماء الذين تَلَقَّوْا هذه القصيدة بالقبول وقرءوا بها وأقرءوا طيلة هذه القرون المتعددة؟!
([14]) وأمثلة هذا كثيرة جدا، منها: منع وجه الإسكان في ميم الجمع لقالون، ومنع وجه الإدغام لابن كثير في {ويعذب من يشاء} بسورة البقرة، ومنع قراءة {يبصط} و{بصطة} بالسين لخلاد.
([15]) من ذلك: فتح ذوات الياء لورش، وقصر البدل له أيضا، والتوسط لقالون، والقصر للدروي.
والأكثر من ذلك أنهم لم يمنعوا اختيارَ الشاطبي وجهَ النقلِ وقفًا لحمزة في نحو: {مِن أجر} مع أن الداني وشيخه أبا الفتح يمنعانه! وكذلك لم يمنعوا مد البدل لورش مع أن الداني له مؤلفات في منع مد البدل! فأنت ترى أنهم يختارون هذا بينما لم يمنعوا أشياء أخرى دون ذلك!
([16]) كما فعلوا في كلمة: {أئمة}؛ حيث زادوا وجه الإبدال على طريق «الشاطبية» بحجة أنه صح من طريق «الطيبة» فيُقرأُ به! مع أن الشاطبي نبه على أنه تركه.
([17]) للتوسع في هذا الموضوع يُرجع إلى كتاب: «الاختيار عند القراء .. مفهومُه، مراحلُه، وأثرُه في القراءات»، وهو رسالة علمية تقدم بها أمين بن إدريس بن عبد الرحمن فلاته لنيل درجة الماجستير من كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
([18]) ومنها:
– أن يكون المختار ممن توفرت فيه أهلية الاختيار.
– أن يكون الوجه المختار مما اجتمعت فيه شروط القبول.
– أن يكون القارئ قد قرأ به أو سمعه في الجملة.
– أن لا يؤدي إلى الوقوعِ في محذور نحوي أو لغوي.
– أن ينسبه المختارُ لنفسه، لا إلى شيوخه، ولا إلى صاحب الكتاب الذي يقرأ من طريقه، وإلا عُد ذلك تلفيقا.
([19]) ومن باب المناسبة والفائدة أورد هذه النقول ردا على من يطعن في قراءة حمزة:
قال الإمام الذهبي في «ميزان الاعتدال»: «قد انعقد الإجماع بأخرة على تلقِّي قراءةِ حمزةَ بالقبول،, والإنكارِ على من تكلم فيها، ...[و] يكفى حمزةَ شهادةُ مِثْلِ الإمام سفيان الثوري له؛ فإنه قال: ما قرأ حمزةُ حرفًا إلا بأثرٍ» اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى»: «وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ عَنْ السَّلَفِ الْمُوَافِقَةُ لِلْمُصْحَفِ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلْفٍ، وَبَيْنَ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو وَنُعَيْم. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا: إنَّ الْقِرَاءَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ [وأن] مَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ...» اهـ.
وقد كتب العلماء في هذه المسألة عدة كتابات، استقلالا وضمنا، فليُرجع إليها للوقوف على تفصيل الكلام.
([20]) مثلما منع ابن الجزري السكت لحفص على القصر.
([21]) مثلما حكى السخاوي عن الشاطبي أنه كان لا يختار في المد مرتَبَتَيْ فويق القصر وفويق التوسط. فلهذا لا يُقرأ بهما من طريقه؛ لأنه لم يخترهما، وهل يؤخذ من طريقه بغير اختياره؟!
([22]) مثلا: بعض زيادات القصيد لم يصححها ابن الجزري، ولم يقرئ بها؛ فحيث إننا نقرأ بمضمن «الشاطبية» من طريق ابن الجزري فلا نقرأ بها؛ لعدم اتصال سندها حينئذ. وللوقوف على هذه الزيادات ارجع -على سبيل المثال- إلى «إنصاف الإمام الشاطبي»، فقد عقد لها فصلا خاصا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.